التحليل الاقتصادي
04.03.2025بلغ متوسط نمو الاقتصاد غير النفطي في المملكة العربية السعودية 4.8% خلال الفترة الممتدة بين عامي 2021-2024، مدفوعاً باستثمارات حكومية غير مسبوقة في القطاعات الإستراتيجية، وذلك في إطار خطة التنمية المستدامة "رؤية السعودية 2030". وبالتزامن مع ذلك، بدأت الحكومة تطبيق عدد من الإصلاحات الاقتصادية والمالية على نطاق واسع منذ عام 2016، الأمر الذي ساهم في تعزيز بيئة الأعمال، ورفع مستويات التوظيف والإنتاجية، إلى جانب المساهمة في دفع عجلة النمو والتنويع. ويتطلب الحفاظ على هذا الزخم القوي في القطاع غير النفطي على استمرار الإصلاحات وتعزيز الاستثمارات المحلية. وعلى الرغم من التحديات الناجمة عن انخفاض أسعار النفط والإنتاج وارتفاع النفقات، إلا أن مستويات عجز المالية العامة والدين العام ما تزال تحت السيطرة، وذلك بفضل إعادة ترتيب أولويات الإنفاق والدور الفعال الذي يلعبه صندوق الاستثمارات العامة في الاقتصاد المحلي.
التحول الاقتصادي يمضي قدماً
في ظل التزام السعودية بخفض إنتاج النفط وفقاً لمتطلبات اتفاق الأوبك وحلفائها، تراجع الدور التقليدي للقطاع النفطي، ليتصدر الاقتصاد غير النفطي المشهد، محققاً معدلات نمو لافتة. ومنذ الجائحة، بدأت المكاسب الاجتماعية والاقتصادية في الظهور، إذ وصلت مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج المحلي الإجمالي نحو 51% في عام 2024، حسب التقديرات الرسمية الأولية (الرسم البياني 1). وسجل القطاع غير النفطي نمواً بنسبة 4.6% في الربع الرابع من عام 2024، متجاوزًا معدل النمو المسجل في الربع السابق (4.3% على أساس سنوي)، ما دفع النمو السنوي لعام 2024 ليصل إلى نحو 4.3%. وترسم المؤشرات الشهرية صورة إيجابية للظروف الحالية التي يمر بها الاقتصاد غير النفطي، بدءاً من ارتفاع ائتمان القطاع الخاص بنسبة 13% على أساس سنوي في ديسمبر 2024، ووصولًا إلى تسجيل مؤشر مديري المشتريات لنشاط القطاع الخاص أعلى مستوياته في عشرة أعوام في يناير 2025 (60.5 نقطة)، مما يرسم صورة إيجابية للظروف الحالية ضمن الاقتصاد غير النفطي.
ومن الجدير ملاحظة وتيرة التقدم وتوزع مكاسب الإنتاج بشكل أكثر وضوحاً عبر مجموعة أوسع من القطاعات مقارنة بالسابق، بما في ذلك قطاعات تجارة الجملة والتجزئة، والإنشاءات، والتصنيع، والنقل.
وساهم الارتفاع الكبير للاستثمارات المحلية في تعزيز هذا التقدم، ما يعكس التزام الحكومة بتطوير وتنويع الاقتصاد غير النفطي عبر تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للاستثمار منذ عام 2021، في إطار رؤية السعودية 2030. وتستهدف هذه الإستراتيجية توجيه استثمارات بقيمة 12.4 تريليون ريال (1.3 تريليون دولار) عبر قنوات متعددة، تشمل الحكومة المركزية، وصندوق الاستثمارات العامة، وبرنامج "شريك" الذي يهدف إلى ترسيخ التعاون بين القطاع الحكومي والشركات الكبرى، إلى جانب استثمارات المستثمرين الأجانب. وقد تم تحديد أهداف إنمائية واضحة لعدد من القطاعات الرئيسية مثل الترفيه والسياحة، والنقل، والخدمات اللوجستية، والتصنيع. ونتيجة لذلك، شهد إجمالي تكوين رأس المال الثابت الحقيقي نمواً سنوياً بنسبة 12% في المتوسط خلال الفترة الممتدة بين عامي 2021-2023، بينما ارتفعت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي إلى 25.2% في عام 2023، والتي تعتبر أعلى معدل يتم تسجيله وفقاً للبيانات المتاحة.
وساهم تنامي القاعدة الإنتاجية غير النفطية، إلى جانب سياسات توطين الوظائف (السعودة) وإدماج المرأة في سوق العمل، في دفع معدل البطالة بين المواطنين إلى قرب المستويات التاريخية المنخفضة عند 7.8% في الربع الثالث من عام 2024، فيما وصلت مشاركة النساء في القوى العاملة إلى 36% خلال الفترة ذاتها، متجاوزة بذلك المستوى المستهدف من قبل الحكومة البالغ 30% (الرسم البياني 3). بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت نسبة توظيف السعوديين في القطاع الخاص إلى 51% في الربع الثالث من عام 2024، مقابل 46% في عام 2021. وساهم ارتفاع معدلات التوظيف، إلى جانب توسع الأنشطة الاقتصادية وزيادة الفرص المتاحة، في تعزيز الاستهلاك الخاص (سجل نمواً سنوياً بنسبة 6.6% في المتوسط خلال الفترة الممتدة بين عامي 2021-2023)، ما شكل ركيزة أساسية، إلى جانب ارتفاع وتيرة الاستثمار، في تحقيق القطاع غير النفطي لمعدلات نمو قوية.
تزايد أهمية عائدات السياحة كمحرك رئيسي لتحوّل الاقتصاد السعودي
سجل قطاع السياحة في المملكة نمواً ملحوظاً منذ عام 2020، إذ ارتفع عدد الزوار من أقل من 50 مليون زائر إلى أكثر من 100 مليون في عام 2023. وقفز الإنفاق السياحي إلى أكثر من 250 مليار ريال (67 مليار دولار) في عام 2023، بما يعادل 14% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي، مقابل 7.4% في عام 2021، على خلفية الجهود الحكومية الملموسة لتطوير القطاع (الرسم البياني 4). وشملت تلك المبادرات إنشاء صندوق للتنمية السياحية، وتيسير إجراءات التأشيرات، وتعزيز الاستثمار في رأس المال البشري، إلى جانب توسيع مسارات السفر الجوي، وإطلاق حملات تسويقية واسعة، واستضافة فعاليات رياضية وترفيهية عالمية، مثل سباقات الفورمولا 1 والحفلات الموسيقية الدولية. كما لعب تطوير المواقع الطبيعية والتراثية، مثل ساحل البحر الأحمر وبوابة الدرعية والعلا، دوراً رئيسياً في تعزيز السياحة الداخلية والوافدة، بينما ساهمت مشاريع تطوير مواقع المشاعر المقدسة وتوسعة البنية التحتية للنقل في دعم النمو المستمر لسياحة الحج، التي تشكل عنصراً جوهرياً في حركة السياحة الوافدة.
ومن المتوقع أن تواصل السياحة دورها المحوري في دعم النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل، لا سيما في قطاعي تجارة الجملة والتجزئة، اللذين شهدا معدل نمو سنوي بلغ 8.3% في المتوسط بين عامي 2021 و2023. وبفضل هذا الزخم، أصبح قطاع السياحة أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي خلال عام 2023، إذ استحوذ على 15.3%.
فرص نمو واعدة ضمن قطاعي التصنيع والتعدين
يواصل قطاع التصنيع السعودي (باستثناء تكرير البترول) ترسيخ مكانته كمحرك أساسي للنمو الاقتصادي، إذ يمثل نحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي. وعلى الرغم من الأداء القوي الذي حققه في عامي 2022-2023 (بمعدل نمو سنوي بلغ 7% في المتوسط) إلا أن القطاع شهد انكماشاً هامشياً (-0.7%) خلال عام 2023، متأثراً بقاعدة الأساس وضعف الطلب على البتروكيماويات في الصين، والتي تعتبر الشريك التجاري الأكبر للمملكة. أما مؤشرات عام 2024 فتعكس انتعاشاً واضحاً للقطاع، في ظل نمو الإنتاج بنسبة 2.6% خلال الأرباع الثلاثة الأولى، كما تبدو التوقعات المستقبلية إيجابية في ظل عودة القطاع مرة أخرى لتوسيع نطاقه بما يتجاوز عمليات التكرير والبتروكيماويات ليشمل تصنيع المعدات الصناعية والعسكرية، بما يتسق مع مستهدفات الإستراتيجية الوطنية للصناعة. وتبرز الطاقة المتجددة وقطاع التعدين والمعادن كركائز واعدة للنمو. وفي هذا الإطار، عززت الحكومة استثماراتها عبر إصدار نظام الاستثمار التعديني في عام 2021، مما فتح المجال أمام منح تراخيص استكشاف للموارد الطبيعية غير المستغلة بقيمة تقدر بنحو 1.3 تريليون دولار. وشهد القطاع مؤخراً توقيع صفقات بقيمة 9.3 مليار دولار مع شركات كبرى، منها شركة فيدانتا الهندية ومجموعة زيجين الصينية.
تحسن بيئة الأعمال يعزز الاستثمار الأجنبي المباشر
شهدت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى المملكة قفزة في عام 2023، مسجلة 96 مليار ريال (25.5 مليار دولار)، لتتجاوز بذلك الهدف المعلن البالغ 83 مليار ريال (22 مليار دولار) وتحقق المستوى المستهدف الذي حددته الإستراتيجية الوطنية للاستثمار بنسبة 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي (الرسم البياني 5). وكانت هناك زيادة في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في عامي 2021 و2022، مدفوعة بصفقات خطوط أنابيب أرامكو الاستثنائية التي بلغت قيمتها 12.4 مليار دولار و15.6 مليار دولار، على التوالي. وفي عام 2023، ارتفعت التدفقات الواردة بنسبة 50% مقارنة بعام 2022، بعد استبعاد التدفقات غير المتكررة من العام السابق. وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، تضاعفت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر 3 مرات تقريباً، لتصل إلى 112 مليار ريال (30 مليار دولار) بين عامي 2021 و2023، بعد إطلاق الإستراتيجية الوطنية للاستثمار، مقابل 43 مليار ريال (11.5 مليار دولار) في المتوسط بين عامي 2018 و2020. وتطمح الحكومة إلى جذب 100 مليار دولار سنوياً من الاستثمارات الأجنبية، بما يعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030. أما على الصعيد القطاعي، ما يزال التصنيع الوجهة الأكثر استقطاباً للاستثمارات الأجنبية المباشرة، يليه قطاعا التجزئة والضيافة، ثم الخدمات المالية والنقل والتخزين. واستفاد الاستثمار الأجنبي المباشر من الإصلاحات الاقتصادية المتسارعة، ومن بينها فرض شرط إنشاء مقرات إقليمية داخل المملكة للشركات الراغبة في التعاقد على المشاريع الحكومية، إلى جانب الحوافز الضريبية. بالإضافة إلى ذلك، عزز قانون الاستثمار الجديد (الصادر في يناير 2024) هذه الجاذبية عبر تسهيل إجراءات الترخيص التجاري، وحماية حقوق المستثمرين، وتبسيط عمليات بدء أنشطة الأعمال. كما ساهمت مبادرات التحول الرقمي، مثل منصة "اعتماد" للمشتريات، في تقليص مشاكل تأخير المدفوعات للمقاولين.
الاستثمارات تنمو والإصلاحات تشهد زخماً جيداً
في حين أن الموازنة الأخيرة (2025) الصادرة عن وزارة المالية جاءت توسعية إلى حد ما مقارنة بسابقاتها، إلا أن الإنفاق خارج الميزانية من خلال صندوق الاستثمارات العامة يتوقع أن يتضاعف تقريباً من 40 مليار دولار إلى 70 مليار دولار سنوياً بدءاً من عام 2025، وفقاً لمُحافظ الصندوق. وبالتوازي مع ذلك، تعمل الإصلاحات الجارية على تعزيز التنفيذ الفعال للقوانين، وتبسيط الإجراءات والرسوم، وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، إلى جانب تيسير الوصول إلى الأراضي والتمويل، وتحسين الحوكمة، ما يعزز توسع القطاع الخاص، ويحفز الاستثمار الأجنبي المباشر، ويدعم نمو الإنتاجية. كما يشكل الاستثمار المستمر في رأس المال البشري والتحول الرقمي عاملاً رئيسياً في إطلاق العنان للمزيد من إمكانات الإنتاجية وتحقيق مكاسب اقتصادية مستدامة. وتساعد الإصلاحات في ترسيخ التقدم نحو تحقيق أهداف الاقتصاد الكلي ضمن برنامج تحقيق الرؤية، إذ تم تحقيق بعضها جزئياً (أو كلياً)، ما أسهم في تحقيق التنمية الاقتصادية التي شهدتها المملكة في السنوات الأخيرة. وتؤكد الإنجازات المحققة حتى الآن فعالية هذا التوجه، إذ تضاعفت الإيرادات غير النفطية بنحو ثلاثة أضعاف منذ عام 2016 (خط الأساس)، وارتفعت مساهمة الصادرات غير النفطية من 18% إلى 24% من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي. كما شهد الاقتصاد السعودي تقدماً ملموساً في التصنيفات العالمية المتعلقة بالخدمات اللوجستية، وبيئة الأعمال، والحوكمة، والقدرة التنافسية، إلى جانب ارتفاع مساهمة الاقتصاد الرقمي، ونمو الشركات الصغيرة والمتوسطة، وزيادة الاستثمار في القطاعات الواعدة. وتأتي هذه التطورات مدعومةً بالتوسع في منح التراخيص في الصناعات الإستراتيجية، إلى جانب الاستثمار المتنامي في رأس المال البشري، ما يعزز نمو الإنتاجية (الرسم البياني 6).
آفاق نمو إيجابية تتوقف على تنسيق الجهود الاستثمارية مع وجود بعض المخاطر السلبية
تبدو آفاق النمو واعدة، بفضل قوة الزخم الاستثماري، وتسارع وتيرة الإصلاحات، وتزايد تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر والتوظيف، إلى جانب الأداء المتنامي للقطاعات الإستراتيجية مثل السياحة والتصنيع والنقل والخدمات اللوجستية. ولا تزال الحكومة ملتزمة بالحفاظ على وتيرة إنفاق استثماري قوية، خاصة مع اقتراب استضافة بطولة كأس آسيا 2027 وغيره امن الفعاليات العالمية البارزة مثل إكسبو 2030 وكأس العالم لكرة القدم 2034. وفي ظل هذه المعطيات، فمن المتوقع أن يبقى النمو غير النفطي قوياً ليسجل نسب أعلى من 4.0% في عام 2025، مقابل 4.3% في عام 2024.
أما على صعيد المخاطر، فيبقى تراجع أسعار النفط من أبرز التهديدات، والذي يعكس على الأرجح ضعف نمو الاقتصادات الناشئة، وعلى رأسها الصين التي تعتبر محركاً مهماً للطلب العالمي للنفط. وقد يؤدي انخفاض الإيرادات النفطية إلى تزايد الضغوط على الوضع المالي للحكومة (التي تتوقع عجزاً قدره 101 مليار ريال أو ما يعادل 27 مليار دولار لعام 2025)، ما قد يفرض قيودًا على بعض المشاريع الكبرى والاستثمارات المخطط لها. إلا أنه على الرغم من ذلك، يبقى احتمال تباطؤ الإنفاق بوتيرة حادة محدوداً، في ظل توفر قنوات تمويل بديلة، والدعم الذي يقدمه صندوق الثروة السيادي، وتوافر احتياطات مالية قوية، إلى جانب انخفاض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. من جهة أخرى، قد تؤثر وتيرة خفض أسعار الفائدة الأمريكية، إذا جاءت أبطأ من المتوقع، على قدرة السعودية على تخفيض أسعار الفائدة نظراً لسياسة ربط الريال السعودي بالدولار الأمريكي، ما قد يحد من نمو الائتمان، والإنفاق الخاص، وسوق الرهن العقاري، وبناء المساكن. وأخيراً، فإن السياسات الحمائية للولايات المتحدة، كالتعريفات الجمركية التقييدية، قد تزيد من التضخم المستورد، ما يشكل تحدياً إضافياً للنمو الحقيقي.