الاقتصاد الدولي
02.06.2025يعاني الاقتصاد العالمي من تبعات سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية، إذ ساهم قرار المحكمة الأمريكية الأخير في تصعيد حالة عدم اليقين. وفي ظل استمرار المنازعات القضائية المتعلقة بهذه الرسوم، يصعب توقع تحقيق تقدم ملموس في المفاوضات التجارية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين. إلا أنه على الرغم من هذه التطورات، تؤكد الإدارة الأمريكية تمسكها بخطط فرض الرسوم الجمركية، مع استعدادها لاستخدام آليات بديلة إذا استدعت الحاجة. وفي منطقة اليورو، يواجه البنك المركزي الأوروبي ضغوطاً تدفعه إلى خفض سعر الفائدة مرة أخرى، وذلك في ظل توقعات لمفاوضات تجارية صعبة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. أما في المملكة المتحدة، فتتباين التوقعات على الرغم من إبرام بعض الاتفاقيات الإيجابية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند، نظراً للدعم المحدود لناحية السياسات المالية والنقدية وحالة عدم اليقين السائدة في التجارة العالمية. وفي اليابان، يساهم ارتفاع عائدات السندات في تعقيد مهمة بنك اليابان، ويبرز التحديات المتعلقة بالمالية العامة. وأخيراً، فعلى الرغم من تصاعد التوترات مؤخراً بين الصين والولايات المتحدة، إلا أن العودة إلى نهج تهدئة التصعيد بين الطرفين يبقى احتمالاً قائماً.
الولايات المتحدة تبتكر أساليب جديدة لفرض الرسوم الجمركية، ونفوذ ترامب يتراجع وسط استمرار نظر القضايا أمام المحاكم
بغض النظر عن المسار الذي ستأخذه التطورات القانونية التي ظهرت مؤخراً على الساحة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، من المرجح أن تظل الإدارة الأمريكية ملتزمة بخططها لفرض هذه التعريفات، مع استعدادها لاستخدام وسائل بديلة إذا استدعى الأمر. إلا أنه على الرغم من ذلك، ومع استمرار القضايا المعروضة أمام المحاكم، تتراجع القوة التفاوضية للرئيس ترامب بشكل كبير في مفاوضاته مع الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة. والأهم من ذلك، أنه لا يمكن توقع تقدم كبير في المفاوضات التجارية الأمريكية طالما ظل الملف القضائي معلقاً. وعلى الرغم من تفاقم حالة عدم اليقين منذ تولي ترامب منصبه، إلا أن مستوى جديد من عدم اليقين القانوني ظهر نتيجة للتطورات القضائية. وبعيداً عن التطورات القضائية، يظل 9 يوليو، موعد انتهاء التوقف المؤقت للرسوم الجمركية المتبادلة بين الولايات المتحدة ودول العالم، تاريخاً محورياً. وقد تمكنت الولايات المتحدة والصين سابقاً من تهدئة الحرب التجارية بينهما، إلا أن المفاوضات توقفت وتصاعدت التوترات مؤخراً. وعلى الرغم من احتمال استمرار التصعيد بعد انقضاء مهلة التسعين يوماً، إلا أن السيناريو الأكثر منطقية يتوقع استئناف التوجه نحو خفض التصعيد، في ظل وعي الاقتصادين الأكبر في العالم بالضرر الاقتصادي الكبير الذي قد ينجم عن حرب تجارية شاملة.
في ذات الوقت، أقر مجلس النواب "مشروع القانون الكبير والجميل" الذي تقدم به الحزب الجمهوري، غير أنه يعد خطوة في الاتجاه الخاطئ نظراً لما قد يؤدي إليه من زيادة الدين العام، الذي بات على مسار غير قابل للاستدامة، على الرغم مما قد يحققه من دعم للنمو الاقتصادي على المدى القصير. ويعرض المشروع حالياً على مجلس الشيوخ، إذ يتوقع إدخال بعض التعديلات عليه، وإن كان من المرجح أن يحتفظ بطابعه كقانون يسهم في زيادة الدين. وعلى صعيد الأداء الاقتصادي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من العام نتيجة للرسوم الجمركية، بينما حافظ سوق العمل على قدر كبير من المرونة، مع وصول متوسط الزيادة الشهرية في الوظائف إلى 155 ألف وظيفة خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وبناءً على ذلك، يرجح أن يواصل مجلس الاحتياطي الفيدرالي سياسة الانتظار والترقب، في ظل تسعير الأسواق حالياً لاحتمال خفض سعر الفائدة حوالي مرتين بمقدار 25 نقطة أساس لكلا منهما قبل نهاية العام الحالي. وتشير تقديراتنا إلى أن الركود في الولايات المتحدة أمراً يمكن تفاديه ما لم يعاد إشعال فتيل التصعيد الجمركي مجدداً. وكان التراجع السابق في وتيرة التصعيد قد أدى إلى تحفيز التعافي السريع في أداء مؤشر ستاندرد أند بورز 500، الذي عكس اتجاه الهبوط السابق بحدة واتخذ شكل حرف V، وذلك على الرغم من أن مؤشر الدولار الأمريكي ما يزال أقل بنسبة 10% مقارنة بأعلى مستوياته المسجلة في يناير الماضي.
خفض جديد مرتقب للفائدة من المركزي الأوروبي ومن المرجح أن تكون المفاوضات صعبة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة
استهل اقتصاد منطقة اليورو العام الجاري بأداء جيد فاق التوقعات، مسجلاً نمواً بنسبة 0.3% على أساس ربع سنوي في الربع الأول من العام، مقابل0.2% في الربع السابق. من جهة أخرى، اقترب معدل التضخم الكلي من المستوى المستهدف البالغ 2.2% على أساس سنوي، وذلك على الرغم من ضرورة تسجيل تراجع إضافي في مستويات التضخم الأساسي وقطاع الخدمات. إلا أن المؤشرات الأخيرة بدأت تعكس تداعيات الرياح المعاكسة الناتجة عن الرسوم الجمركية، إذ انخفض مؤشر مديري المشتريات (49.5 في مايو)، في أول تراجع له إلى دون مستوى 50 خلال العام الحالي. وعلى صعيد السياسة النقدية، واصل البنك المركزي الأوروبي نهجه التيسيري بخفض سعر الفائدة سبع مرات منذ يونيو 2024، مع توقع شبه يقيني لمزيد من التخفيضات في اجتماع هذا الأسبوع. وعلى الرغم من تراجع البنك في مارس عن وصف سياسته بأنها "مقيدة"، تشير العقود الآجلة إلى إمكانية خفضها مجدداً مرة واحدة او اثنتين في النصف الثاني من العام، مما يعكس حجم عدم اليقين المحيط بالتطورات التجارية المستقبلية.
وتعتبر التطورات التجارية لدى الاتحاد الأوروبي (أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة) من العوامل الجوهرية في تشكيل الآفاق المستقبلية، لا سيما بعد تهديد الرئيس ترامب برفع الرسوم الجمركية "المتبادلة" على الاتحاد الأوروبي إلى 50%. وحتى في حال تم تأييد الحكم الابتدائي بوقف هذه التعريفات، فإن الرسوم المفروضة على قطاعات محددة مثل صناعة السيارات والصلب والألمنيوم، والتي ستتضاعف قريباً، ما تزال سارية، فضلاً عن وجود رسوم جمركية أخرى قيد الإعداد، ما يجعل منطقة اليورو عرضة للمزيد من الصدمات التجارية. وبغض النظر عن الاحكام القضائية الصادرة، تكررت تصريحات ترامب التي تعكس عداءً واضحاً تجاه الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى اختلال كبير في ميزان تجارة السلع لصالح الاتحاد الأوروبي، مما يزيد من صعوبة المفاوضات المتوقعة بين الطرفين. ويضاف إلى ذلك أن هيكل الاتحاد الأوروبي المعقد وبطء عملية صنع القرار تشكلان عائقاً إضافياً في سبيل التوصل إلى تفاهمات سلسة. إلا أنه على الرغم من ذلك، يبدي مسؤولو الاتحاد الأوروبي رغبة واضحة في تجنب تصعيد النزاعات مع الولايات المتحدة.
عدم اليقين التجاري والدعم المحدود من قبل السياسات المالية والنقدية يثقلان التوقعات الاقتصادية للمملكة المتحدة رغم الصفقات الإيجابية
على الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي البريطاني في الربع الأول (بنسبة 0.7%)، متجاوزاً التوقعات، إلا أن الآفاق الاقتصادية ما تزال غير مشجعة، إذ يعود النمو بشكل رئيسي إلى تأثير التعريفات الجمركية الأمريكية على قطاع التصنيع والصادرات، بينما ظل الاستهلاك المحلي متعثراً. وأبرمت المملكة المتحدة إطاراً تجارياً مع الولايات المتحدة سيتفيد منه مصدري السيارات وغيرهم، إلا أن التعريفة الأساسية البالغة 10% ما تزال سارية ومعروضة حالياً أمام المحاكم، مع استمرار المفاوضات حول التفاصيل العالقة. وعلى صعيد التطورات الإيجابية، أعادت بريطانيا ضبط علاقاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي وذلك بعد الانفصال عنه، ووقعت اتفاقية تجارية مهمة مع الهند. إلا أنه على الرغم من هذه التطورات، حذر بنك إنجلترا من تداعيات سياسات الرسوم الجمركية الأمريكية وتأثيرها غير المباشر الذي قد يمتد عبر اضطرابات سلاسل التوريد العالمية. وقد يساهم استمرار ضعف توقعات النمو في زيادة الضغوط على المالية العامة، إذ أقدمت وزيرة المالية البريطانية، راشيل ريفز في مارس على تخفيض بعض بنود الرفاهية وغيرها من البنود الخاصة بالنفقات للحفاظ على استقرار المالية العامة. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي استمرار زيادة مساهمات التأمين الوطني لأصحاب العمل إلى استمرار التأثير السلبي على مستويات التوظيف. وبناءً على ذلك، خفض بنك إنجلترا في مايو توقعاته للنمو للأرباع القادمة إلى 0.1% فقط على أساس ربع سنوي في الربع الثاني من العام، ونحو 0.3% في الربعين الثالث والرابع، مع خفض أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس ليصل إلى 4.25%. وفي ذات الوقت، يتخذ البنك "نهجاً حذراً وتدريجياً"، ويتوقع ارتفاع "مؤقت" في التضخم خلال الأشهر المقبلة. وقفز معدل التضخم وفقاً لمؤشر أسعار المستهلكين إلى أعلى مستوياته المسجلة في 15 شهراً عند 3.5% على أساس سنوي في أبريل، مقابل 2.6% في مارس، فيما يعزى بصفة رئيسية إلى ارتفاع تكاليف المرافق العامة وغيرها من الرسوم الحكومية الأخرى، التي لا يتوقع بنك إنجلترا استمرارها خلال العام المقبل. وفي ظل مشهد اقتصادي غير مشجع، يستمر نمو الأجور (5.6% على أساس سنوي)، مع التباطؤ التدريجي في تضخم قطاع الخدمات (5.4% على أساس سنوي)، فيما تسعر الأسواق حالياً احتمال خفض سعر الفائدة بمقدار 25-50 نقطة أساس بنهاية عام 2025.
ارتفاع عائدات السندات اليابانية يعقد مهمة بنك اليابان ويبرز تحديات المالية العامة
انكمش الاقتصاد الياباني بنسبة 0.2% على أساس ربع سنوي في الربع الأول من العام، مسجلاً أول انخفاض له خلال عام، نتيجة لضعف الاستهلاك، وانخفاض الصادرات بنسبة 0.6%، والارتفاع الحاد للواردات بنسبة 2.9%. وعلى الرغم من الزيادة القوية في الأجور بنسبة 5.4% التي نتجت عن مفاوضات شونتو لعام 2025، والتي تبعت زيادة مماثلة في العام السابق، انخفضت الأجور الحقيقية في الربع الأول من العام، مما أثر سلباً على الإنفاق الاستهلاكي، بينما تدهورت الصادرات تحت ضغط الرسوم الجمركية الأمريكية. وفي ذات الوقت، استمرت الضغوط التضخمية مع ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي (باستثناء الأغذية الطازجة) بنسبة 3.5% على أساس سنوي في أبريل، وهو أعلى مستوى يصله منذ يناير 2023، مع بقاء تضخم أسعار الغذاء حاداً بصفة خاصة. واستجابة لهذه التحديات، أعلنت الحكومة مؤخراً عن حزمة إغاثة بقيمة 2.8 تريليون ين ياباني (نحو 20 مليار دولار) لدعم الأسر المتضررة من ارتفاع تكاليف المعيشة والتأثير السلبي لزيادة الرسوم الجمركية الأمريكية.
وما زالت المفاوضات التجارية بين اليابان والولايات المتحدة مستمرة وسط تحديات، أبرزها الرسوم الأمريكية التي تم فرضها على قطاع السيارات والبالغة 25%، وهو قطاع محوري للاقتصاد الياباني، وتشكل إحدى أبرز نقاط الخلاف. ومن المرتقب أن يلتقي رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا بالرئيس ترامب منتصف يونيو على هامش قمة مجموعة السبع في كندا، ويحتمل التوصل إلى إطار تجاري مبدئي في حينه، رغم محدودية الآمال في ضوء التطورات القضائية داخل الولايات المتحدة. في ذات الوقت، أدى تزايد الضغوط على المالية العامة إلى جانب استمرار بنك اليابان في تقليص مشترياته من السندات إلى ارتفاع عائدات السندات طويلة الأجل بوتيرة حادة، لتصل إلى أعلى مستوياتها في عدة سنوات. ويضع هذا التطور بنك اليابان في موقف أكثر تعقيداً، في وقت يواجه فيه بالفعل تحديات كبرى تتمثل في تباطؤ النمو وتجاوز معدلات التضخم للمستوى المستهدف لثلاث سنوات متتالية. ويهدد ارتفاع عائدات السندات بإضعاف النمو الاقتصادي، وزيادة الضغوط على الموازنة العامة، فضلاً عن إمكانية تكبد الميزانيات العمومية للمستثمرين المؤسسيين خسائر فادحة.
نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني يفوق التوقعات في الربع الأول من العام، والعودة إلى تهدئة التوترات مع الولايات المتحدة يظل وارداً
سجل الاقتصاد الصيني نمواً قوياً بنسبة 5.4% على أساس سنوي في الربع الأول من العام على الرغم من التحديات، متجاوزاً التوقعات والمستوى المستهدف للحكومة البالغ "نحو 5%" لعام 2025. وواصلت الصادرات أداءها القوي، مسجلة ارتفاعاً بنسبة 12% و8% على أساس سنوي في مارس وأبريل، على التوالي، ما ساهم في تعويض تراجع الصادرات إلى الولايات المتحدة من خلال زيادات ملحوظة إلى دول أخرى، أبرزها شرق آسيا. وقد شكل خفض التصعيد السابق مع الولايات المتحدة – رغم كونه مؤقتاً في إطار نافذة التسعين يوماً – مصدر ارتياح واضح للأسواق. وفي تقييمنا، بدت الصين في مركز أقوى خلال تلك المرحلة، حتى قبل صدور الأحكام القضائية الأخيرة في الولايات المتحدة. وباستثناء الرسوم الجمركية المفروضة بنسبة 20% على المنتجات المتعلقة بالفنتانيل، أبقت الولايات المتحدة تعريفة عامة بنسبة 10% على معظم الواردات الصينية، وهي نسبة مماثلة لتلك التي فرضتها الصين على السلع الأمريكية. وعلى عكس الصين، فإن معظم الدول الأخرى لم ترد على هذه الرسوم، رغم تأثرها بها. وعلى الرغم من أن احتمال التصعيد ما يزال قائماً بعد انقضاء مهلة التسعين يوماً، (خاصة في ظل تعثر المفاوضات القائم حاليا) إلا أننا نرجح سيناريو استئناف نهج التهدئة وخفض التصعيد في العلاقات التجارية بين الجانبين كما أسلفنا الذكر.
وقبل تراجع حدة التوترات مع الولايات المتحدة، تراجعت المعنويات الاقتصادية في الصين، إذ انخفض مؤشر مديري المشتريات الرسمي إلى 50.2 في أبريل، وتراجع نظيره لقطاع التصنيع إلى أدنى مستوياته المسجلة في 16 شهراً ليصل إلى 49.0 ، قبل أن يسجلا تحسناً هامشياً في مايو. في المقابل، ظل الطلب المحلي ضعيفاً، مع بقاء تضخم مؤشر أسعار المستهلكين في النطاق السلبي للشهر الثالث على التوالي خلال أبريل، واستمرار انكماش مؤشر أسعار المنتجين لأكثر من عامين ونصف. وفي مواجهة هذه التحديات، خفض البنك المركزي في مايو عدد من معدلات الفائدة الرئيسية وقلص نسبة متطلبات الاحتياطي ضمن حزمة من السياسات التيسيرية. وعلى الرغم من إمكانية تقديم دعم مالي ونقدي إضافي خلال الفترة القادمة، إلا أن استمرار نهج خفض التصعيد مع الولايات المتحدة قد يقلل الحاجة إلى تحفيز واسع النطاق.